|
قادتني المصادفة منتصف مايو 1990 م الى مقابلة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ضمن بعثة إعلامية موفدة من عدن الى صنعاء لتغطية الوجه الآخر لمناسبة حدث إعلان الوحدة المزمع بعد أيام في 22 مايو من الشهر نفسه.
دخلت على الشيخ في صالة الإستقبال بمنزله ومكتبه في الحصبة بعد أن تعرف قبل ذلك الى إسمي ومهمتي الصحفية.
كان إلى جانبه في الصالة شخص وحيد أسمر وجهه الى استدارة , تجاوز الخمسين من العمر متوسط الجسم جامد النظرات ..
قال لي الشيخ عبدالله هل عرفت من هو هذا الذي الى جانبي ( وهو يشير إلى الرجل).
وأردف هذا هو الشيخ محمد حسين الغشمي أخوه الرئيس أحمد الغشمي .. واستغربت من شدة تواضع مظهره وملامحه وأنا أبتسم ,
ثم قدمني إليه وهو يمازحه بالقول : .. والآن هذا هو يا محمد صاحب عدن عبدالفتاح الذي قتل اخوك بالشنطة المفخخة) , وأطلق الأحمر ضحكته المعتادة مع النقزة , وشعرت بثقل المزحة وقليلا من الحرج.
قلت للشيخ محمد الغشمي : أنتم تعرفون الصراع بين الأنظمة في الشمال والجنوب وإن كل واحد عندنا يصفي الآخر ويقتله .. أو يقضي عليه ويدمره معنويا ).. ووافقني الشيخ عبدالله : هذه هي الحقيقة والواقع بالضبط ما بيش غيرها ).
اعتبر الرجل (الغشمي) أنني أوجه إليه العتب في قتل الرئيس إبراهيم الحمدي , لكن هدفي كان تهوين قتل الزعماء وعدم إحراجه , فرد علي وهو كمن يقسم اليمين : ( والله أنا قد نصحت أخي كثير وهوه ما رضيش يسمع كلامي).
ثم قدمني له الشيخ الأحمر رحمه الله وعرفه بمهنتي وذكر المقابلة التي رد على أسئلتها المكتوبة , وكانت جاهزة أمامه في مظروف , وأبرز ما فيها هو رده وموقفه من المعترضين على الوحدة مع الملاحدة الشيوعيين .. وقال : من يرفضون قيام الوحدة إنما في قلوبهم مرض ..) وجاء سؤالي على خلفية تظاهرات معترضة للاسلاميين شاهدتها بنفسي في شارع التحرير وغيره.
كانت معلومات حكام صنعاء إن عبدالفتاح إسماعيل هو وراء عملية اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي في 22 يونيو 1978م بينما القرارات الكبيرة مثلها لا تحسمها إلا اللجنة المركزية ومكتب التنظيم السياسي الحاكم وقيادة السلطة العليا في عدن بالإجماع كما حصل في اغتيال الغشمي , وعبدالفتاح إسماعيل جزء من كل في ذلك وغيرها .. وأشرف على العملية وتجهيز الحقيبة المفخخة في عدن الخبراء الألمان الشرقيون الذين ساهموا في تحديث جهاز أمن الدولة وتدريب كوادره , ومصادر أخرى ترجع الأشراف على العملية الى الكوبيين .. والتفاصيل كثيرة ومثيرة لكن شهادة محمد حسين الغشمي على أخيه تجعل انتقام الجنوب لمقتل الرئيس إبراهيم الحمدي دلالة إلهية أكثر من كونها حادثة اغتيال سياسي , فلم يستمر اغتصاب الغشمي للحكم أكثر من 8 أشهر ونيف.
حدثني محمد الغشمي الذي توفي عام 1995 م رحمه الله في اللقاء نفسه عن رفضه للمشاركة في السلطة بعد عرض الرئيس علي عبدالله صالح عليه منصب رئاسة الوزراء . . وقال : أنا ما بين أدور عن المناصب .. سكهة وربخة , معي مزارع قات في ضلاع همدان كفايتي .. وانت اليوم ضيفي , شارسل لك السيارة لفندق الإخوة ) شعرت بالمداهمة .. فشكرته مع الاعتذار وفي نفسي من التشوش والارتياب ما يكفي وبالغت في ارتباطاتي الأخرى للتملص.
وفي صنعاء حيث يأنس المرء بلقاء وعشرة أناسها الطيبين , إلا أن مقابلة كبار القوم لا يغري بأكثر من التوجس والفزع المكتوم.
كان محمد حسين الغشمي في حالة ضيق شديدة كما تبدو ملامحه .. عرفت منه بعدها أنه يعاني حالة اكتئاب , وهو مرض يصيب أكثر أصحاب الضمائر الحية خصوصا في اليمن.
* من قتل الغشمي ؟ *
الكثير من الطبقة السياسية في اليمن اعتبروا عملية ثأر نظام الجنوب للحمدي عملا بطوليا لكنها حملت في تلافيفها أبشع الجرائم ضد رفيق درب الحمدي نفسه الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) , فقد وجه له رفاقه كيديا تهمة تصفية الغشمي وإرسال (الحاج مهدي تفاريش) منفذ العملية الى صنعاء باسمه الذي انفجرت به الحقيبة المفخخة ايضا مع الرئيس الغشمي أثناء فتحها في مكتب الأخير .. وروجوا كعادتهم في الدعاية التي يتقنونها إن الرئيس سالمين أقسم على قبر الحمدي أثناء مشاركته التشييع أنه سوف ينتقم له من قاتله طال الزمن أو قصر .. وهناك معلومة تقول إن سالمين بالفعل بعث برسالة بروتوكولية إلى الغشمي ولكن استخبارات أمن الدولة في مطار عدن استبدلت حقيبة تفاريش بأخرى مفخخة أثناء صعوده الطائرة !!.**
* لماذا اعدموا سالمين*
لم يكن إذن إغتيال الغشمي بطولة او انتقاما وثأرا للزعيم الحمدي بل ذريعة وغطاء للإطاحة بالرئيس سالمين وازاحته عن الحكم وتصفيته ببشاعة دون جريرة إلا كونه يمثل الإشتراكية الصينية الواقعية(الفلاحية) المعتدلة , وكانت حالة العداء بين موسكو وبكين في أوجها تلك الفترة بالذات .. وتأثر الزعيم سالمين بتجربة البناء والتحديث والنهضة الزراعية والصناعية الصينية وليس بألافكار الماوية نفسها .. وأثبتت السنوات اللاحقة بعد
نظره ونقاء فطرته.
وإذا كان الرفاق في عدن يوالون الحمدي بالفعل فلماذا يتخلصون من صديقه ورفيق دربهم (سالمين) الذي كان قبل ثلاثة أيام من مقتل الحمدي بانتظار زيارته إلى عدن للمشاركة في احتفال ثورة 14 أكتوبر وربما الإعلان عن خطوات وحدوية كانت وراء تعجيل الغشمي بتصفيته مع أخيه عبدالله الحمدي .. ونقل عن الاول مقولة( نتوحد مع السعودية).
صحيح جدا ان اغتيال الغشمي بعد ذلك استهدف نفوذ السعوديين في صنعاء بصورة غير مباشرة لكن التضحية برمز وطني كبير بحجم سالمين كشف تورط عملاء ال k.g.b جهاز الاستخبارات السوفياتي في عدن.
شكل بقاء الرجل في رأس الحكم عقدة أمام قيام حزب اشتراكي شيوعي ماركسي لينيني بتوجهات سوفياتية كان مزمعا الإعلان عنه في أكتوبر 1978 م بعد أشهر قليلة من تصفية سالمين في 26 يونيو , وكان غير متحمس لذلك المولود الذي أسموه (حزب طليعي من طراز جديد).
اجتمعت أعلى سلطة حزبية وقيادة في الدولة وأقرت إدانة سالمين بالإجماع بمقتل الغشمي واحالته للمحاسبة واقالته من منصبه , ولم يعترض على القرار (المؤامرة) سوى عضوان في اللجنة المركزية هما حسن أحمد باعوم( زعيم الحراك الجنوبي الشهير) حاليا , اطال الله في عمره وحضرمي آخر هو ... العيدروس , وصادق باقي القطيع السياسي على الجريمة بدم بارد او أنهم بلا دم اصلا.
وأصر التيار الدموي خصوصا على تصفية سالمين جسديا حتى بعد تقديم استقالته لهم بخط يده .. فكان انقلاب 26 يونيو 1978ضده بعد أيام بقصف الطيران لمقر دار الرئاسة بالتواهي منطقة(الفتح) .. واصطحبته قوة عسكرية قبل الظهر الى مقر قيادة وزارة الدفاع القريب بجبل باصهيب بعد توجيه أوامره لحراساته بوقف القتال , وهناك قام قيادي بارز بإطلاق النار عليه من بندقية آلية عند وصوله أمام بوابة المبنى مباشرة , واخفيت جثته الى اليوم .. ولقي القاتل هو الآخر مصرعه بعدها بأعوام في أحداث 13 يناير 1986م المشؤومة وبطريقة غادرة مباغتة شبيهة بطريقة تصفيته لسالمين !!.
كان بالإمكان اعتقال الرئيس وسجنه كما حدث للرئيس الراحل قحطان محمد الشعبي لكنهم خشوا من شعبية سالمين العارمة في أوساط غالبية أبناء الشعب لأن بقائه قد يعيق قيام الحزب الاشتراكي اليمني بعد اشهر قليلة او يضعفه , عدا شخصيته القوية الاستقلالية التي ستلخبط حساباتهم.
صحت عدن على هول صدمة والمذيع يتحدث في بيان كاذب عن التمكن من الإطاحة بانقلاب قاده سالمين على رفاقه ولكن من ينقلب على من وهو الرئيس ؟!!.
ذلك اليوم الحزين في حياتي شخصيا نحو العاشرة صباحا في حي المدينة البيضاء بخور مكسر قرب محل إقامتي امام الكورنيش شاهدت جثتين لاثنين من العسكريين ملقية بجانب نخلة , قيل إن الرجلين حاولا تسلق الشجرة لإطلاق النار على قائد أركان معسكر بدر الموالي للرئيس في منزله القريب , وكانت آثار قذيفة آر . بي .جي اخترقت الجدار من الخارج .. لكن الرجل نجا ولم يعرف مصيره بعدها .. وكانت لدى المنقلبين على سالمين قائمة بالقادة العسكريين الموالين له تمت محاصرتهم في منازلهم أو في المعسكرات بالتزامن مع قصف الطيران لدار الرئاسة ..
وما يفضح كذب مزاعم انقلاب قاده سالمين على خصومه , أنهم ذهبوا لإلقاء القبض على العسكريين الموالين له في بيوتهم وليس في المعسكرات , إلا إذا كانوا سيديرون الانقلاب من غرف النوم !.
ولمواجهة مشاعر الجماهير الغاضبة على الانقلابيين أطلقوا ذرائع ودعايات مضحكة منها ان الرئيس سالمين كان برجوازيا وأنه يعبث بالعملة الصعبة , وأنه فرض استيراد البرتقال , وصادفت قراءة هذه المعلومة الهزلية الشائعة أيضا في كتاب ( 17 ساعة عند باب المندب) تأليف (نبيل هادي) الذي صدر بعد المؤامرة بفترة.
وربما أراد سالمين إدخال السرور على شعبه أسوة بالرئيس الحمدي الذي كانت الفواكه المتنوعة في عهده تنقل بالقاطرات عبر ميناء عدن إلى صنعاء وغيرها لكن رفاقه المتآمرين عليه بالباطل غواة فقر وحرمان وتعذيب للذات ( مازوشية) بينما كانت لهم بطائق تموينية خاصة من شركة التجارة الحرة المخصصة للأجانب وقيادات الحزب العليا لكل ما يشتهون.
ومن نزاهة سالمين النادرة أن والدته كانت أول من صادر عليها أراضيها لتطبيق قانون الملكية الزراعية والتأميم الاشتراكي .
* تفريط بالثروات *
والغى الرفاق الجدد في عدن اتفاقية استثمار الأسماك التي وقعها سالمين مع شركة (نيشيرو) اليابانية ليمنحون حق امتياز الثروة كلها دون قيود للرفاق السوفييت بموجب اتفاقية الصداقة (الاستراتيجية الشاملة) الموقعة عام 1979 م , فعاثوا فسادا في البحر وأهلكوا البيئة والثروة دون رقابة أو حدود , حتى أنه قضى مسؤول يمني جنوبي كبير في موسكو بحادثة غامضة بعد اعتراضه في اجتماع رفاقي على تجريف المراعي السمكية في الجنوب , واسمه ( م . م) !!.
كانت ممارسة المسؤولية القيادية للرئيس سالمين مضرب المثل فلا يمر أسبوع دون أن يحكى عنه مواقف تثلج الصدور.
زارنا ذات صيف فجأة إلى السكن الداخلي للمعهد البحري (الاسماك) قبل عام على مقت
له وتحلق الطلاب حوله , جلس بجانبي على مقعد البوفية الطويل وهو يمسح على رأسي باستلطاف مع ابتسامته المعهودة , وكنت حليق الشعر (اصلع) مع قدوم الصيف .. سألنا رحمه الله عن الصعوبات والطلبات والمعيشة, وكان وقت تناول الغداء فشكونا له رداءة الطهي في المطعم , فطلب طبق أرز ليتذوق الطباخة بنفسه , وصادف ذلك اليوم وجود طباخ جيد غير الذي شكونا منه .. وتناول سالمين الأرز وهو يتذوقه قال لنا :
أنا أشوف إن طعم ألرز وطباخته ما فيها شيء , الطعم مرغوب -- ثم استدرك -- إلا أنني يمكن اعحبني من شدة الجوع ) .. فقلنا له :
لا .. معك حق يا رئيس هذا اليوم نوبة الطباخ الأفضل .. فوجه الإدارة لتنبيه الطباخ الغائب بتحسين الطهي .. فكان لنا ما اردنا .. ثم قال لي رحمه الله شد حيلك اشتي اشوفك تغني في الاحتفالات بعد ما أخبره زملائي ببراءة واعتزاز منهم أنني ( فنان المعهد) فصدقت نفسي والتحقت بعدها بقسم الهواة في معهد الفنون الجميلة بالمعلا للدراسة مساء.
* خاتمة وخلاصة*
يحضر شهر أكتوبر ليذكرنا بتداخل كوابيس السياسة والصراع على السلطة في اليمن , فمناسبة مقتل الحمدي 11 أكتوبر 1977م تذكرنا بمصرع الغشمي في 22 يونيو 78 م , والأخير يجرجر معه ذكرى اغتيال سالمين بعد أربعة أيام فقط في 26 يونيو 78 م ..
وبالحسابات الفلكية أيضا في أكتوبر يتداخل الشتاء بالصيف , وفي يوم غد الإثنين تاريخ 14 نستقبل ذكرى ثورة أكتوبر 1963 في الجنوب وأولى أيام شتاء هذا العام أيضا.
وما ذكرته حول نصيحة الشيخ محمد حسين الغشمي لأخيه الرئيس أحمد حسين وتحذيره من الأقدام على قتل احد عظماء اليمن الشهيد ابراهيم الحمدي لا يدخل ضمن كوابيس الشتاء أو المرويات الملفقة وافتعال الأحداث ..
وأعرف تماما المثل الإنجليزي القائل ( إذا أردت أن تكذب فاستشهد بالموتى) , ولكن يعلم الله وحده أنني لم أنقل سوى ما قاله لي محمد حسين الغشمي في حضرة الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر عن معارضته ونصحه لاخيه بالتراجع عن قتل الحمدي .. وأبرز دوافعي في ذلك هو تحديد المسؤولية الجنائية المباشرة الاولى عن مقتل الحمدي إزاء اللغط والتشوش وأحيانا في وجود أو إشارة أصابع اتهام لآخرين بالجريمة من المحتمل شاركوا بشكل غير مباشر من عدم ذلك .. وقد قال القيادي الناصري الشهير حاتم أبو حاتم وهو عسكري قديم في مقابلة قديمة نشرتها صحيفة الوسط اليمنية إن الرئيس أحمد حسين الغشمي عرض عليه قتل الرئيس الحمدي في لقاء عابر جمعهما دون معرفته بجدية الطلب من عدمه , لأن الاخير بحسب أبو حاتم لا يميز بين الجد والهزل غالبا.
أما شهادة الفقيد محمد حسين الغشمي فهي تبرئة ذمة منه بعد أن نصح أخاه كثيرا بحرمة إهدار دم الرئيس الحمدي , ولكنه ركب رأسه وصم أذنيه عن نصح أقرب الناس إليه.
وبغياب الوعي السياسي العام وقاعدة التداول السلمي للسلطة ولعبة الديمقراطية الانتخابية المتوازنة لن تنجو اليمن من فخاخ ومثالب ومقالب الاستيلاء على السلطة بالقوة والقهر والغلبة بكل موبقاتها البدائية العفنة كما هو حالنا الشاهد الآن .
أسأل الله أن يعصمني وإياكم من الزلل والغفلة والهوى .. والله خير الشاهدين.
هامش :
** تفاريش او دفاريش كلمة روسية وهي لقب منفذ عملية اغتيال الغشمي , وقيل إن صالح مصلح وزير الداخلية وعد الحاج تفاريش بإقامة متحف شخصي له لتخليده بعد تنفيذ العملية , ما يؤكد علمه وقناعته بالتنفيذ.
واسمه الثلاثي (مهدي أحمد صالح).
في الأحد 13 أكتوبر-تشرين الأول 2019 05:24:42 م