لم تعد تلك المدينة التي تأكل الجُبن بالجبنِ

الأربعاء 10 أغسطس-آب 2011 الساعة 02 صباحاً / مأرب برس – منال القدسي:
عدد القراءات 19196
 
محافظة تعز, جنوب غرب اليمن
 

مساء يوم الأحد الموافق 29/05/2011م اقتحم الحرس الجمهوري, أو ما اصطلح على تسميته «الحرس العائلي» مدعوما بـ«11» قوة أمنية واستخباراتية وأعداد كبيرة من البلاطجة والقناصة الذين تم جلبهم من محافظات أخرى، ساحة الحرية بتعز, وهي الساحة التي تشهد اكثر الاحتجاجات السلمية المطالبة باسقاط النظام، وقام الحرس العائلي والقوات المرافقة بقصف الساحة بالذخيرة الحية والقنابل المسيلة للدموع وكان يتصدى لها شباب الثورة بصدور عارية هاتفين: «سلمية سلمية». إلا ان هذا الهتاف لم يشفع لهم من اراقة دمائهم الزكية حيث بدأ الشباب يتساقطون مابين شهيدا وجريح.

الهجوم على الساحة بدأ من الساعة الرابعة عصرًا, وفي الساعة الحادية عشر ليلًا وبعد تيقن القوات المهاجمة من عدم وجود اي نوع من السلاح لدى المعتصمين اشتدت ضراوة الهجوم وبدأت القوات المهاجمة اكتساح الساحة وصب وابلٍ من رصاص الأسلحة الثقيلة والمتوسطة على الشباب العُزل, وقاموا بإحراق الشباب المعتصمين داخل خيامهم, حيث كان بعض الشباب قد لجأ للخيام للاحتماء من الرصاص ودخان القنابل المسيلة للدموع, ولم يسلم من وحشيتهم ودمويتهم حتى المعاقون الذين كانوا في خيامهم عاجزين عن الحركة، وفقدت تعز في تلك الليلة المئات من أبنائها بين قتيل وجريح ومعتقل وعدد كبير مازال مصيره مجهولًا حتى الآن.

وعقب اكتساح الساحة وحرقها بمن تبقى فيها من المعتصمين والجرحى والمعاقين, بدأت عملية سلب ونهب من قبل القوات المهاجمة, حيث نُهبت جميع ممتلكات الشباب المعتصمين السلميين، كما قام «الحرس الجمهوري» وبلاطجته باقتحام مستشفى الصفوة داخل الساحة والتي كانت تستقبل جرحى الاحتجاجات السلمية، وقاموا بإلحاق الأذى بالجرحى داخل المستشفى واعتقالهم, كما قاموا بنهب كافة محتويات المستشفى من أدوية وأجهزة وأدوات ولم يسلم شيء من النهب والسرقة والخراب, فالشيء الذي لم يستطيعون قاموا بإتلافه كجهاز التصوير الطبقي المحوري الذي لم يتمكن أفراد الحرس الجمهوري من نهبه, فقاموا بتدميره بإطلاق الرصاص، وعند الفجر قاموا باقتحام المستشفى الميداني ورموا الجرحى إلى الشارع, كما قاموا بإنزال الجرافات للساحة وجرف ما تبقى من الخيام المحترقة بما فيها الجثث المتفحمة لإخفاء معالم الجريمة البشعة التي ارتكبوها.

عقب المحرقة استمر الحرس الجمهوري, الذي يقوده الابن الأكبر الرئيس اليمني, في ارتكاب العديد من الانتهاكات ضد ابناء المدينة, فاعتدى أفراده بالرصاص الحي على المسيرات السلمية او اي تجمعات في الشوارع ومشطوا بالأطقم العسكرية والمصفحات الالية شوارع المدينة في وضح النهار, وأطلقوا المعدلات الثقيلة على المواطنين والمارة واعتقلوا كل تجمع شبابي يزيد عن اثنين، كما قاموا باستحداث نقاط عسكرية في كافة شوارع المدينة الرئيسية ومفاصل الشوارع الفرعية.

وجميع من اقتحموا الساحة واحرقوا المعتصمين واعتدوا على المسيرات السلمية وروعوا النساء والأطفال كانوا من أفراد الحرس الجمهوري الذين تم جلبهم من محافظات أخرى. تجدر الإشارة هنا إلى أن كافة القيادات العسكرية في تعز ليست من أبناء المحافظة تعز.

محرقة ساحة الحرية استثارت وأججت مشاعر الغضب لدى أبناء تعز لأول مرة مع مزيج عجيب من الحزن العميق والإحساس بالانكسار والإحباط، وتخوف الكثيرين من أن يكون «صالح» قد نجح في مخططه الرامي إلى وأد الثورة في تعز مستغلاً تاريخ المدينة التي لم تعهد استعمال السلاح.

مجتمع مدني

فـ مدينة تعز, جنوب غرب اليمن, مجتمع مدني غير قبلي لا يعرف الداعي ولا المغرم ولا يعرف أبناؤها العصبية الفئوية، وهم إما عُمال وموظفون أو مهاجرون يكسبون رزقهم بعرق جبينهم والبعض منهم تجار، وعلى مرّ التاريخ لم يعرف أبناء المدينة الحروب, وطريقهم إلى القضاء في أي مشكلة يقعون بها, لا إلى غيره.

عانت تعز طوال العقود الثلاثة الماضية من تهميش متعمد وممنهج من قبل صالح الذي عمد الى التخلص من الرموز القيادية من أبنائها فور اعتلائه كرسي السلطة, واستمر في سياسية التغييب والتصفية الجسدية لقيادات المحافظة ومثقفيها واستبدالهم باشخاص صنعهم وامدهم بالرجال والمال, ومعظم هؤلاء الاشخاص قتل صالح آباءهم وعاد ليشتري أبناءهم ثمناً لسكوتهم وأغدق عليهم الأموال والمناصب.

تجلى «حماة الشعب» فبات الدفاع لا مناص منه

بعد محرقة ساحة الحرية ظهرت تداعيات لم تكن على البال ولم تعهدها المدينة على مرّ تاريخها، تداعيات أزالت عن كاهل المدينة التمسكن والجُبن والتظلم وتلقي المظالم بانكسار، فبعد ان كان ابناء المدينة كما قال عنهم احد الحكماء «يأكلون الجُبن بالجبنِ» تجلت شجاعتهم وبطولاتهم.. فكان الظهور الاول لـ «حماة الشعب» هو أحد تداعيات محرقة ساحة الحرية؛ حيث بات الدفاع عن النفس امر لا مفر منه امام نظام سفاح.

و«حماة الشعب» هم أبناء محافظة تعز الواقعة جنوب غرب اليمن، المحافظة التي تحتل المرتبة الاولى من حيث الكثافة السكانية والتعليم، وهي المحافظة الاكثر طلاباً وحرفيين ومهنيين والاكثر مدارس، واهم ما يميز أبناء المحافظة ثقافتهم وميولهم نحو المدنية والتحضر.

ولكن بعد محرقة ساحة الحرية اضطر أبناء تعز للدفاع عن أنفسهم وكرامة مدينتهم. خرجوا في مجموعات شبابية انضوت تحت إمرة بعض القيادات الثورية وهدفها الدفاع عن المدينة وحفظ دماء وكرامة ابناء تعز واستعادة ساحة الحرية وحماية الشباب المعتصمين فضلاً عن الهدف الاول وهو استنزاف النظام وإسقاطه.

جمة الـ3 من يونيو.. البداية كانت من هنا

وكان أول ظهور لـ «حماة الشعب» في الجمعة الأولى بعد محرقة ساحة الحرية في الـ3 من شهر يونيو حينما عزم ابناء المدينة على تأدية صلاة الجمعة في شارع المغتربين المجاور لساحة الحرية على الرغم من الانتشار الامني الكثيف للجنود المدججين بمختلف انواع الاسلحة المتوسطة والثقيلة وعلى الرغم من الاطقم العسكرية والمصفحات والمدرعات والدبابات المنتشرة في المنطقة التي حددت لإقامة الصلاة لمنعهم من التوافد, إلا أن الآلاف من أبناء المدينة توافدوا إلى شارع المغتربين من مختلف الجهات ومن مختلف مديريات تعز.

وجوبه المصلون بزخات الرصاص الحي التي أطلقت عليهم من معدلات ثقيلة لنشر الذعر بينهم ولإجبارهم على التراجع والعودة الى منازلهم, لم يتراجع الشباب ولم ترعبهم لعلعة الرصاص والقذائف المدفعية لانهم قطعوا العزم على وجوب استعادة ساحتهم وكرامتهم مصرين على أداء صلاتهم تحت لعلعة الرصاص وقصف الدبابات. واستمرت محاولات كر وفر, لتتفاجأ بعد ذلك جموع المصلين بقدوم مجموعة من المسلحين من ابناء مديريات مخلاف وشرعب قادمين من الجهة الشمالية «منطقة عصيفره», وحدثت اشتباكات بين الحرس الجمهوري «الحرس العائلي» وأبناء تعز المسلحين, انتهت بدحر أفراد الحرس العائلي وفرارهم من المنطقة مذعورين بعد أن فقدوا عدة أطقم عسكرية وإحدى الدبابات, وقام المسلحون من «حماة الشعب» بإحراقها, وسُمي شارع المغتربين بـ «ساحة النصر». وأدى عشرات الآلاف صلاة الجمعة وسط حماية الشباب المسلحين الذين انتشروا على طول الشارع وعرضه لحماية جموع المصلين. وفي اليوم ذاته أطلق أبناء تعز على المسلحين لقب «حماة المصلين».

وبعد الصلاة اتجه حماة المصلين مع شباب الثورة الى ساحة الحرية لاستعادتها بعد ان كان الحرس الجمهوري «العائلي» قد حولها إلى ثكنة عسكرية وملأها بالمصفحات الآلية والاطقم العسكرية والبلاطجة, الـ 3 من يونيو, ذات اليوم, تم استعادة ساحة الحرية, وصادف أن تعرض «صالح» لمحاولة الاغتيال الفاشلة في مسجد النهدين بدار الرئاسة بصنعاء, فيما لا يزال يتلقى العلاج في العاصمة السعودية الرياض برفقة عدد من رموز نظامه.

لتبدأ الانتفاضة المسلحة لثوار تعز الذين اُطلق عليهم بعد ذلك «حماة الشعب». فيما صرح ممثلو النظام العسكري في تعز بأن محرقة ساحة الحرية ما هي إلا البداية وأن أبناء تعز لم يروا شيئاً بعد!

عن «حماة الشعب»..

هم مجاميع شبابية من ابناء محافظة تعز يتواجدون على امتداد المساحة الجغرافية لمدينة تعز وينتمون الى مختلف مديريات تعز الـ23 مديرية, من «الجند» و«ماوية» شرقاً إلى «نجد قسيم» و«النشمة» و«المعافر» غرباً, ومن «مخلاف» و«شرعب» شمالاً إلى «مشرعه» و«حدنان» و«صبر الموادم» جنوباً.

ويتواجد «حماة الشعب», في شمال مدينة تعز, في مديريتي «مخلاف» و«شرعب» وفي منطقة «عصيفره» و«الشجره», التي تقع تحت سيطرة حماة الشعب بقيادة الشيخ حمود المخلافي, وهو شخصية اجتماعية يحظى بقبول واسع بين أوساط أبناء تعز ويعتبرونه قائد المقاومة المسلحة في تعز وأول من بادر في استعادة كرامة المدينة.

كما يتواجدون في مناطق خطوط التماس بشارع الستين الممتد من «مفرق الذَكَرَة» وحتى «مفرق شرعب» الذي يشهد منذ حوالي شهرين أعنف المواجهات والاشتباكات المسلحة بين حماة الشعب والحرس الجمهوري.

وفي مديرية «التعزية» المطلة على شارع الستين حيث تتواجد قرى «بيت صُدام» التي تعرضت للقصف المدفعي بسبب مواقف أبنائها المؤيدة لحماة الشعب.

وأيضًا في «ساحة الحرية» ومحيطها والتي تتعرض باستمرار للقصف المدفعي من قبل الثكنة العسكرية الرابضة في مستشفى الثورة ومبنى الأحوال المدنية والمعهد الصحي, وهي مرافق حكومية تم تحويلها إلى ثكنة عسكرية لقصف ساحة الحرية والأحياء القريبة, «حي الروضه», «حي زيد الموشكي», «حي كلابه وكمب الروس», «منطقة وادي القاضي», «حي المسبح», «شارع جمال عبد الناصر».

وفيما يخص شرق مدينة تعز, يتواجد «حماة الشعب» في «مدينة القاعدة» التابعة لمحافظة إب والتي يؤيد أحد كبار مشايخها حماة الشعب ويمدهم بالسلاح والرجال.

وفي «منطقة الجند» التي يقع فيها معسكر معاذ بن جبل, معسكر الدفاع الجوي التابع للحرس الجمهوري. وفي مديريات «الراهدة», «سامع», «ماوية», ويقود حماة الشعب هنا البرلماني المعارض سلطان السامعي.

وفي غرب المدينة, فيتواجد حماة الشعب في «منطقة الربيعي», و«منطقة الهشمه», و«نجد قسيم», و«المعافر», و«الشمايتين», و«الضباب», إضافة إلى «منطقة المطار القديم», و«منطقة بير باشا», و«جبل حبشي».

أما في جنوب المدينة, فيتواجدون في «المسراخ», و«مشرعة», و«حدنان».

من هم حماة الشعب؟

* أبناء مديريات مخلاف وشرعب بقيادة حمود المخلافي, والذين كانوا رأس الحربة في المقاومة المسلحة. إضافة إلى شباب من مختلف مديريات المحافظة.

* الضباط الأحرار والجنود المنشقين عن الجيش, ويعزى لهم معظم التكتيكات العسكرية والكمائن. قال عنهم أحد المحللين «بطولاتهم العظيمة في شارع الستين تذكرنا بـ الجوكرات», والأخير لقب يُطلق على المقاتلين الشرسين الذين يتم استخدامهم في اكثر من منطقة.

* أبطال شارع جمال عبدالناصر الذين كانوا اول المنضمين الى ابناء مخلاف وشرعب والى أبطال الستين وحماة الشعب.

* ابناء قرى الصبيحة والزريقة وبني عُمر ولهم اعمال بطولية في شارع الستين والمطار القديم والربيعي والضباب.

* أعضاء الحركة العمالية الثورية, وهم متواجدون منذ اليوم الاول في ساحة الحرية, وأول من فجر شرارة الثورة في اليمن بخروجهم مساء الجمعة الـ 11 من فبراير, ليلة سقوط نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك, في مسيره ليلية الى شارع جمال عبدالناصر مطالبين باسقاط النظام.

* شباب الاحزاب (إخوان، ناصريين، اشتراكيين), انضم بعضهم الى حماة الشعب بعيداً عن تدخل أحزابهم التي كان لها دور كبير في دعم الثورة ودعم «حماة الشعب». فـ«الإخوان المسلمون» قوة عددية لا بأس بها وزخم غير عادي، و«الناصريون» معروف عنهم التنظيم والإدارة, و«الاشتراكيون» أعطوا نكهة للثورة وأيقظوا الفعل الثوري.

* وهناك شخصيات تجدر الاشارة اليها لما قدمته من دعم لـ«حماة الشعب», منها الدكتور عبدالولي الشميري, السفير اليمني الأسبق في العاصمة المصرية القاهرة, وأحد أثرياء تعز.

العميد صادق سرحان

وبالرغم من تسيد وسيطرة «حماة الشعب» على مسارح العمليات في تعز، ظهر فجأة العميد صادق سرحان قائد الدفاع الجوي في الفرقة الأولى مدرع، الذي تقول المعلومات إن اللواء علي محسن الاحمر, قائد المنطقة الشمالية الغربية, قائد الفرقة الأولى مدرع, استقدمه إلى مدينة تعز.

و«العميد سرحان» من أبناء منطقة شرعب وأحد وجهائها, وشكّل حضوره إلى تعز معززًا بعتاد عسكري غير عادي تساؤلات عدة, وشكك الكثيرون بشأن تواجده, فهل يُعد إضافة إلى «حماة الشعب» أم أنه صراع ديكة بين اللواء علي محسن والعميد أحمد علي, نجل الرئيس صالح؟

فيما تعاطف الكثيرون من أبناء تعز مع العميد سرحان؛ خاصة بعد القصف المدفعي الذي طال منزله في «حي المسبح», وأدى إلى مقتل نجله «عبد الرحمن» ابن الـ25 عاماً.

إقراء أيضاً
اكثر خبر قراءة الثورات الشعبية