في بلد يحتمل كل ما فيه الشيء وعكسه

الخميس 12 فبراير-شباط 2009 الساعة 09 مساءً / صنعاء: سناء الجاك - الشرق الاوسط
عدد القراءات 3018
 
  

يقول لك الزملاء عندما تسأل عن العناوين المثيرة في الصحافة اليمنية إن هناك ممنوعات ثلاثة لا يصح فيها الاستقصاء، وهي: السلاح والقات واللاجئون. لكن الصحافي الوافد لا يستطيع أن يفتش عن مواضيع جذابة بعيدا عن هذه العناوين الثلاثة. من هنا يبدأ البحث ليكتشف الصحافي الاستقصائي أن الكلام في الممنوع متاح.

زيارة اليمن كانت في إطار دورة تدريبية على الصحافة الاستقصائية في مكافحة الفساد، التي نظمها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بالتعاون مع الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد، ومنتدى الإعلاميات اليمنيات. وتوليت جانب الإعلام المكتوب فيها بإدارة ماجدة أبو فاضل مديرة «برنامج الصحافيين المحترفين» في الجامعة الأميركية في بيروت.

خلال خمسة أيام، طرح عشرون زميلا وزميلة من صحف ومجلات متعددة أسئلتهم عن الصحافة الاستقصائية. توقفوا عند المعايير الأخلاقية التي لا بد من التزامها في العمل الصحافي ككل، والاستقصائي بشكل خاص. لكن الأهم في هذه المعايير بقي السؤال عن شرعية الرشوة للحصول على المعلومات. كذلك تركز التدريب على أن حدود حرية الصحافيين العاملين ليست محكومة بالسلطة، وإنما بكيفية استخدام المعلومات، والحصول على الوثائق والبيانات واستعمالها، وطرق تفحص التقارير الطويلة، وتدوين الملاحظات، واستعمال الأرقام، وطرق التحقيقات. توقفوا عند الخطوط الحمر ليكتشفوا أنه يمكن تجاوزها بالموضوعية والمهنية من دون الانجرار إلى العواطف والآراء والانفعالات والمواقف المسبقة.

الملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها، سواء عبر الدورة التدريبية أو عبر الجولات الميدانية بحثا عن متعة العمل الاستقصائي، هي أنك في بلد يحتمل كل ما فيه الشيء وعكسه. لا سيما عندما يخبرك الجميع أن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح دعا إلى عدم سجن الصحافيين في قضايا النشر، ليستدركوا فيشيروا إلى أن النصوص القانونية تحول دون الكتابة الحرة، لأن التشريعات لا تفترض حسن النية، ما يفرض بقاء الحيز الاستقصائي في «منطقة آمنة». قد تبدو المعادلة غرائبية بعض الشيء.

لكنها الحقيقة، التي قد لا تتوافر إلا في اليمن، حيث قبضة السلطة تبدو شديدة للوهلة الأولى. لكن الغوص في الكشف عن المستور يبين أن هذه الشدة ليست محصنة بما يمنع اختراقها، من هنا يبدو الحصول على المعلومات اللازمة مهمة ليست مستحيلة، إذا تسنى الوقت اللازم لذلك.

والأهم أن من يكشف المستور يستطيع تغيير واقع ما من خلال الإعلام، كما حصل مع الصحافي علي الضبيبي، الذي أنجز تحقيقا صحافيا مستمرا، في قضية السجناء المعسرين (أي الذين لا تحدد فترة عقوبتهم)، وظل يعمل تحقيقات مستمرة لمدة سنتين حققت نتائج رائعة وملموسة، وكانت النتيجة أنه تم الإفراج عن 1200 سجين معسر.

التدريب الذي شكل فرصة للتعرف على آلية عمل الصحافة اليمنية، ساده الكثير من النقاشات الساخنة، لكن في ساعات ما قبل الظهر فقط. ذلك أن العمل عندما تقارب الساعة الثانية بعد الظهر، تتغير مقاييسه وتشعر بأنك دخلت في الوقت الضائع. الزملاء الكرام يتركون أجسادهم في القاعة ويغادرون بأفكارهم إلى مجالس «القات».

الأمر الذي يقودك تلقائيا إلى الموضوع الأكثر إثارة للجدل في اليمن، وبالتالي الأكثر جدارة بالبحث عن تفاصيل هذه النبتة التي بدأت تغزو الأراضي الزراعية، حتى لو استوجب الأمر المشاركة و«التخزين» في مجالس «القات»، النسائية فقط، لأن مجالس القات الرجالية محرمة على النساء بالطبع.

لكن الذهاب إلى ضاحية ريفية ليس ممنوعا، حيث يمكن التعرف أكثر على هذه النبتة في أرضها ومفاصلة أسعارها وتذوقها، إلى حين يتدخل أحدهم ليوقف الاستقصاء بحجة أو بأخرى، فأفهم والتحق بمرافقاتي.

السلاح في اليمن له خصوصية تتعلق بالقبائل وتركيبتها وعلاقتها بالسلطة. وليس سهلا دخول الإعلامي، إذا كان عابر سبيل، إلى متاهاته. فهذا الملف أسير مد وجزر. لتبقى بعض تفاصيله موضع استغراب. ففي حين لا يصح في التقاليد الخروج إلى الشارع من دون «الجنبية» أو الخنجر، الذي يعتبر إكسسوارا مكملا للرجولة، ولا يعاقب عليه القانون، نشهد جريمة قتل أحد الأطباء طعنا، وذلك إثر وفاة مريض كان يعالجه. فما كان من ذوي الراحل إلا أن انتقموا لفقيدهم الغالي الذي كان في خريف العمر ويعاني قصورا في عمل الكلى إضافة إلى أمراض الشيخوخة. وعندما نسأل عن مدى شرعية السلاح الذي لا يقتصر على «الجنابي»، نعلم أن السوق يوفر كل أشكال السلاح، الأبيض منه والناري، وبالتالي لا غرابة في امتلاك البنادق والمدافع والقنابل وإلخ إلخ إلخ.

لكن عدا خصوصية المواضيع اليمنية بامتياز، لا بد أن نكتشف أن العرب في الهم واحد. فالعمل على ملف اللاجئين في اليمن، أيا كانت هويتهم، لا يختلف عنه في دول أخرى، سواء في لبنان أو الأردن أو مصر. التصوير في الميدان أيضا قد تعترضه الخطوط الحمر، وإن من دون أوامر مباشرة، على اعتبار أن الحرص واجب. وبالتالي قد يجتهد شرطي وينتزع آلة التصوير بالقوة حتى قبل أن يفهم أني حصلت على إذن مسبق، الأمر الذي يستلحق باعتذارات متتالية. ما يكرس الليونة الكامنة في الشدة السلطوية، وما يفتح النفس على سلسلة من التحقيقات الدسمة إذا توافرت المعطيات لإقامة غير عابرة.