عجوز «سبعينية» تناضل لرعاية ابنها المعاق.. ورجل «معدم» مثقل بـ3 أبناء معاقين

الأحد 08 إبريل-نيسان 2012 الساعة 06 مساءً / مأرب برس - شكري حسن
عدد القراءات 10411
 
 

في ركن صغير بمدرسة الضياء بحي كريتر عدن، المعدة لاستقبال نازحي محافظة أبين، يرقد محمد سالم عبدالله مكحل شاب معاق ذهنيا ً وحركيا ً في الثلاثينات من عمره وأمه ( سعدة علي محمد ) 75 عاما،عجوز خط الزمن خطوطه على وجهها، تجلس إلى جانبه وتحاول عبثا منحه شئ من ( وهج ) الحياة المفقود في عينية .. تمسح رأسه بيد حانية وقلب روؤف رحيم ولسان حالها يقول : ( ليس الحزن وحده المكتوب ياولدي) ولكنه العذاب..

شعرت وأنا أدلف عليهما باب الغرفة أن ( مستعمرات ) الحزن كلها اجتاحت تلك البقعة المغلقة من كل شيء الا من رحمة المولى عز وجل ،، حزن جاثم وألم عاصف وحياة ممزقة بين واقع كثير المنغصات ومشاهد تترى ( بالملمات ) نطقت بها جدران الغرفة قبل الألسنة لتحكي فصل جديد من كتاب عنوانه( المعذبون في الأرض ) الحزن فيه كما يبدو( سطرين ) والباقي كله عذاب.

اجتمعت على الخالة( سعده ) ظروف الحياة القاهرة ( مرض ابنها وكبر سنها وقلة حيلتها ) ثم أعقبه قهر وتشرد ونزوح وضياع جراء الحرب الدائرة في أبين فأصبح الهم ( همان ) والألم ( ألمان).

في الصباح الباكر تسحب الخالة ( سعده ) قدميها المتثاقلتين إلى خارج مكان نزوحها ، تفترش الشارع وتمد ( يدها ) للمارة بحثا عن ماتسد به حاجة ابنها المستلقي على فراش المرض منذ أن رأت عينية ( النور ) ثم تعود قبل الظهيرة لترمي ماحملته يداها وتطبع ( قبلة )على رأس ولدها حين تكتشف أنه لا يزال على قيد الحياة.

سألتها : أليس له أحد غيرك ؟ قالت بصوت متهدج وعينان دامعتان ( توفي والده قبل فترة طويلة وله أخ يصغره بسنوات ،عسكري ، في حضرموت وأختان انتقلتا إلى بيت الزوجية الأولى في ( إب ) والثانية في ( عدن ) وبقيت وحدي معه أشاركه ( العناء ) وأقاسمه ( الشقاء).

ابحث كل يوم عن ما استطيع به تغطية حاجياته الضرورية من ( حفاظات) وطعام خصوصا وهو لا يستطيع الحركة ولا الكلام !! أعامله كمولود صغير اغسله وهو في مكانه لأن جسمي الضعيف لا يقوى على حمله إلى دورات المياه في المدرسة.

أحسست وأنا استمع لمعاناتها أن ( جبالا ) من الهموم قد وضعت على رأسها ( ونارا ) من الحزن تلفح جسدها المنهك وقد خيرت على الوقوف بين أمرين كلاهما مر :( ترك ولدها دون رعاية وإطعام وليس له في الحياة غيرها أو التغلب على عجزها وتحمل ماليس بوسعها )

يااااااه .. ما أصعبها من حياة.. وأمرها من أيام .. وأشدها من سنوات .. فلم يعد للحياة في نظر الخالة سعدة رونق أو جمال !! إذ تحولت البسمة إلى ( دمعة ) والسرور ( مصيبة ) والسكينة فزع وكارثة.

اسودت الدنيا في عينيها يوم وجدت نفسها ( طريدة ) خارج ديارها تلتحف العناء وترتشف الشقاء وأكثر من ذلك ( التزامها) رعاية ابنها المعاق وهي المحتاجة أصلا ً إلى من يرعاها ويمسح ( غبار ) التعب من على جسدها النحيل ( المثقل ) بالآلام وكثرة الأوجاع.

قبل مغادرتي لها وابنها خاطبتني بصوت متهدج وبصرخة ( أم ) موجوعة مما آل أليه المآل : ( أنا عاجزة يابني كما ترى وليس لي وابني مصدر للحياة غير مايتم التفضل به علينا !! فمن يكفيني ( ذل ) السؤال والتنقل في الشوارع والأركان ).

تركتها وأنا أتمتم ( لك الله ياخالة سعده. لك الله )..

المصائب لا تأتي فرادى

في مكان غير بعيد هناك ( هم) آخر ( ومعاناة ) ثانية تبدو مشابهة ربما اختلفت تفاصيلها الا أن ( الألم ) واحد والمصيبة مشتركة.

( عبدا لله خميس علي ) الملقب ( عباد ) 38 عاما ً وثلاثة من أولاده يتقاسمون تفاصيل حياة ( مؤلمة ) بكل ماتحمله الكلمة من معنى.. ( خضر ومحمد وجمال ) أكبرهم ( 13 ) عاما ً جميعهم ( معاقون ) تئن أجسادهم من الألم وتصيح لياليهم من الأسى.

ألمت به وأطفاله مصائب ( جمة ) وكربات عديدة لكنه ظل واقفا صامدا ً يتحدى الظروف مستمدا ً قوته من إيمانه بخالقه، لم يطرق بابا الا ( باب ) الله الواسع الكريم الذي بذكره يجد الإنسان سعادة وراحة بال.

يحاول بين الفينة والأخرى تخفيف حدة المعاناة عن أطفاله وتوفير من ما تيسر من مستلزمات الحياة الضرورية ولم يكن يعلم أن الأقدار ستدفعه ذات يوم للقعود ( معاقا ) أمامهم ينظر إليهم بحسرة وألموينظرون إليه وليس غير الدموع ( المكبوتة ) لغة الحديث بين الجانبين..

حاول مرارا وتكرارا علاجهم لكنه في كل مرة يعود خائبا ً فتكاليف العلاج كبيرة واليد قصيرة وليس هناك من يشد ( أزره ) أو يمكنه مساعدته في محنته فكانت نظرات أولاده له ( سهام ) تقطع نياط قلبه وتمزق أحشاء قلبه..

كان ذلك قبل أن تحمل له الأيام حدثا غير سار تحولت أيامه على أثره إلى جحيم لا يطاق، يقول : عبدالله وهو ينظر إلى الأرض بعينين شاردتين وقلب منكسر حزين "كنت أحاول توفير ماتيسر لأولادي المقعدين من خلال العمل في سوق الصيد بمدينة زنجبار ، كان ذلك يمنحني شيء من السعادة المسروقة من قلبي"يواصل الوالد " ذات يوم وبينما أنا خارج من المسجد عقب صلاة الجمعة كنت واقفا ً أمام بائع الخضار الفواكه كي اشتري ما أستطيع به إدخال السرور على أطفالي الخمسة، كانت هناك مسيرة لأنصار الحراك الجنوبي قادمة من طرف الشارع وبينما كنت أراقب المشهد وأثناء مرور المسيرة من أمامنا أطلق افراد الأمن المركزي وابلا من الأعيرة النارية مستخدمة حتى مضادات الطيران لتفريق المتظاهرين فاخترقت رصاصة ( دوشكا ) فخذي الأيمن وأدت إلى كسور بليغة وتقطع في الشرايين والأوردة..

لم اشعر بنفسي إلا وأنا في مستشفى النقيب بعدن وأجريت لي العديد من العمليات أثقلت كاهلي وكلفني ذلك الكثير من المال الذي ساعدني به أهل الخير إلى جانب الحالة النفسية السيئة التي أصبت بها جراء الحادثة الأليمة..

وأضاف " كنت أنظر إلى رجلي المعلقة على السرير واتذكر أطفالي الذين لا عائل لهم غيري .. كنت أطلق زفرات أسى مبحوحة ودموع حارة وآتساءل في نفسي، من أين لأمهم ( المعدمة) لترعاهم وتدبر شئون حياتهم".

بعد أشهر من العلاج خرجت من المستشفى وأنا غير قادر على المشي وماهي إلا أيام قليلة حتى نزلت بساحة أيامنا كارثة ( النزوح ) القسري من زنجبار جراء الحرب لتزداد مساحة ( الألم ) وتكبر صور( المأساة ).

" المصائب لا تأتي فرادى" هكذا هو حال عبدالله وأولاده فبعد المعاناة الشديدة مع المرض والألم والنزوح تلقى بعد حوالي شهر فقط تقريبا خبر تهدم منزله جراء القصف العشوائي على زنجبار لتزداد أوجاعه وتكبر صنوف مآسيه.

كم هي مؤلمة تلك الصور وقاسية تلك الأحداث التي تجرع مراراتها( عباد ) في بلد يبدو أن الطمأنينة غادرته..

( جمال ) أصغر المعاقين الثلاثة يعاني من حالة نفسية غاية في التعقيد ضاعفت من ألم والده وزادت من رقعة المأساة عند الأسرة كلها.. يقول والده "يعاني من أمر غريب عكس أخوانه الباقين إذ (يعض) يديه بعنف ويعمل على تقطيع جسده بأسنانه وهو مادفعنا في آخر المطاف إلى نزع اسنانه وربط يده حتى لا يؤذي جسمه، فمنظر مشاهدة الدماء وهي تسيل على جسده أمر مفجع لنا ولوالدته المكلومة..

يعيش ( عباد ) مأساة النزوح كباقي أبناء أبين في منزل متواضع بمدينة الشيخ عثمان مع عدد كبير من الأشقاء والشقيقات بعد أن استحال عليه العيش وحده في ظل الظروف القاهرة التي يعاني منها..

 مأساة عبدالله والخالة سعدة بين يدي المنظمات الحقوقية والإنسانية ورجال الخير والإحسان فأقصى ما يرجوان توفير الحد الأدنى من الرعاية والاهتمام للمرضى والمعاقين.

اكثر خبر قراءة أخبار اليمن