قطر حين تتعملق
بقلم/ سمير الحجاوي
نشر منذ: 14 سنة و 11 شهراً و 28 يوماً
الأحد 01 نوفمبر-تشرين الثاني 2009 04:52 م


قبل 10 سنوات كتبت عن "سياسة حرق المراحل" في قطر، ويبدو انني لم أكن مخطئا في استخدام هذا المصطلح، رغم ما يحمله من رؤى تنبؤية خطرة، فالكتابة عن المستقبل تكون دائما محفوفة بالمخاطر.

الا انني اشعر بعد هذه السنوات ان قطر قد استطاعت ان تحرق المراحل وانها تمضي قدما وبخطى ثابتة نحو مستقبل مزهر، وهذا الشعور يعضده حقائق على الارض تراها العين ولا تخطؤها.

فقد شهدت البلاد نهضة عمرانية واضحة سواء فيما يتعلق ببناء بنية تحتية وخدماتية تواكب الزيادة السكانية ومتطلبات التنمية او في الابنية والمساكن والمجمعات التجارية وغيرها ، وهذه تعتبر اساسا للحكم على التطور بحسب ابن خلدون الذي يقرر ان العمران هو اساس الحضارة.

وواكب هذا العمران، بناء من نوع اخر يتمثل في بناء الانسان من خلال توفير مرافق طبية وصحية "معقولة".وسعي الى رفع المستوى التعليمي عبر استقطاب الجامعات والمؤسسات العلمية المرموقة، في المدينة التعليمية، التي يمكن اعتبارها مشروعا علميا لبناء المستقبل باعداد الانسان المزود بالعلم والمعرفة، وتقديم منح تعليمية "للمواطنين والمقيمين" على حد سواء، وبكل رحابة صدر.

الى جانب الاهتمام بتنمية الجانب الثقافي واعادة اصدار مجلة الدوحة التي تشكل معلما ثقافيا بارزا الى جانب الصالون الثقافي ومعرض الكتاب والفعاليات الثقافية المختلفة.

"سياسة حرق المراحل" طالت ايضا الجانب الدعوي الاسلامي والعمل الخيري الانساني، فقد نشطت المؤسسات الاسلامية القطرية، مثل وزارة الاوقاف والاجهزة التابعة لها بنشر الدعوة الاسلامية في العالم، وطبع الكتب وتوزيعها مجانا وايفاد الدعاة وتاهيل الائمة والوعاظ لتبني الاسلام الوسطي" دون افراط ان تفريط"، وتنظيم المحاضرات و الندوات.

وساهمت المؤسسات الخيرية القطرية " مؤسسة عيد وجميعة قطر والهلال الاحمر القطري" بتقديم يد العون والمساعدة لمن يحتاج داخل البلاد وخارجها.. بل ان رؤية القيادة القطرية في العمل الانساني تعدت هذه المؤسسات الخيرية،التي تقوم بعمل رائد، الى المؤسسة العسكرية التي جعلت من مساعدة الانسان جزءا اساسيا ومحوريا من عملها، كما هو الحال مع جنود "لخويا" الذين تم ارسالهم لمساعدة المنكوبين في اندونيسيا وغيرها من البلدان.

قطر نجحت ايضا بحرق المراحل الجيوسياسية، وتخطت حدود الجغرافيا الصغيرة والضيقة وقلة عدد السكان من خلال لعب دور سياسي فاعل في العالم العربي، وقد ظهر هذا في الوساطات التي قامت بها في لبنان والسودان والصومال واليمن وارتريا وفلسطين، وقد نشطت القيادة القطرية بتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين، واخذت مسافة واحدة من جميع الفرقاء، جعل منها وسيطا مقبولا ذا مصداقية من قبل الجميع.. نجحت هذه الوساطات احيانا واخفقت احيانا اخرى،بسبب التدخلات الاقليمية والدولية المتضاربة،والجهات التي تحرص على ادامة الصراع وشلالات الدم.

فقد نجحت السياسة القطرية بنزع فتيل الازمة المتفجرة في لبنان وتمكنت من جمع كل الاطراف على طاولة واحدة في الدوحة، ليتنفس المواطن اللبناني الصعداء بعد ان كان قد حبس انفاسه جراء الخطاب الانفعالي والتوتر المتصاعد على الساحة السياسية، وحالت السياسة القطرية دون تحول الصخب الكلامي الى صدام مسلح على الارض.

 

حقائق الجغرافيا السياسية لم تمنع القيادة القطرية من اتخاذ موقف متميز اثناء العدوان الاسرائيلي على غزة، ولم تتلكأ قيد انملة ولم تترد بالوقوف مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لهجمة شرسة تهدف الى اقتلاعه من ارضه، وبادرت الى تقديم الدعم السياسي والانساني والمالي لغزة واهلها، وهو الامر الذي عرضها لعاصفة من الانتقادات الحادة من الاطراف الاقليمية والدولية التي كانت ترغب باقتلاع حماس وجذوة المقاومة في فلسطين، وحاولت قطر دفع العرب الى اتخاذ موقف عملي من العدوان الاسرائيلي وعقدت قمة غزة التي تفاخر بعض المسؤولين العراب بان بلاده افشلتها.

هذا الموقف القطري من العدوان على غزة، ليس سهلا على الاطلاق، ومن اتخذه يعرف تماما الكلفة السياسية التي تترتب عليه، خاصة وان قطر دولة صغيرة تحاول ان تكون صديقة للجميع بدون استثناء، وهي ايضا حليفة للولايات المتحدة الامريكية، لكن القيادة القطرية كانت رسالتها واضحة جدا لواشنطن " نحن حلفاء..نعم " ولكن هذا لا يعني اطلاقا " اننا في الجيب"، ومثلما تدافعون انتم عن مصالحكم، نحن ايضا لنا مصالحنا".

واذا كانت المصلحة الامريكية هي رعاية اسرائيل ومدها بالمال والسلاح وكل اسباب القوة، فان مصلحة قطر هي الدفاع عن الشعب الفلسطيني ودعم مقاومته للاحتلال من اجل تحرير ارضه وتقرير مصيره مثلما تنص كل الشرائع السماوية والوضعية والقوانين والمواثيق الدولية.

لقد تعملقت قطر واثبتت السياسة القطرية ان بامكان دولة صغيرة ان تتخذ موقفا حاسما حتى في مواجهة الكبار، وان تعلن انها تستطيع ايضا ان تضع تعريفا جديدا للجغرافيا السياسية، لا يرتبط بالحجم والموقع بل يتعلق بالارادة المبنية على التماسك الداخلي والرؤية والاستشراف والعزيمة وقوة الحق.

"سياسة حرق المراحل تؤتي اكلها"، فقطر تقفز في مجال حقوق الانسان الى الامام بشكل ثابت ومستمر، ومعدلات التنمية تتصاعد بوتيرة مضطردة، وسجلها في التنمية البشرية يحقق اختراقات على مستوى العالم، ومعدل الدخل فيها من اعلى المعدلات العالمية، وهي سياسة تتحق لانها تعتمد على بناء الانسان اولا.