|
من دروس الثورات العربية الإستهانة التي واجهها الشعب من الحكام وأبناؤهم ، ففي الثورة المصرية استهان جمال مبارك بشباب الفيسبوك وهاهو اليوم خلف القضبان ، وفي ليبيا استهان القذافي بالثوار واصفاً أياهم بالجرذان وهاهو اليوم مختفي كالجرذان ، وفي اليمن وصف أنصار صالح شباب الثورة في مطلع شهر فبراير 2011م بأنهم مجموعة من طلاب الجامعة الصيع والمراهقين وأُرسل البلاطجة لتأديبهم وطردهم من بوابة الجامعة وعددهم أنذاك بالعشرات ، بل جاء رئيس الجمهورية ليلقي خطاباً في جامعة صنعاء واصفاً شباب الثورة بعملاء أمريكا والصهاينة وأن خطواتهم تدار من تل أبيب ، وبدأت الثورة أيضاً بأعداد بسيطة في محافظتي عدن وتعز، ولكن ماذا جرى خلال أشهر معدودة لقد إتسعت ساحات الثورة الشبابية لتغطي غالبية محافظات الوطن ، واتسعت مساحاتها من أمتار إلى كيلو مترات ، وتزايدت الأعداد من المئات إلى الملايين ، بل أن محافظات مثل إب وذمار حتى أشهرقريبة كانت أعدادها محدودة جداً واليوم تنافس العديد من المحافظات السباقة بل وتفوقها في بعض المناسبات ، وكذلك المرأة التي كان دورها شبه معدوم نجد أعدادها تتصاعد بشكل سريع يفوق التوقعات ، وكذلك أعضاء المؤتمر الشعبي وقياداته كل يوم نرى تسابقاً محموماً للإنضمام للثورة ، عجباً لقد أصبحت الغالبية الفاعلة في المجتمع طرفاً فاعلاً ومؤيداً للثورة ، ويكفينا فقط أن نقرأ مشهد صلاة الجمعة في مختلف محافظات الجمهورية اليمنية اليمنية ونقارنها بالإعداد المتواضعة التي يجمعها الحزب الحاكم في ميدان السبعين( وهؤلاء يتم جمعهم من عدد من محافظات الجمهورية) ، بينما المتواجدين أنصار الثورة لايحتاجوا مثلاً القدوم من إب إلى صنعاء لأن ساحات الثورة متاحة في إب ، وقس عليه باقي المحافظات .
الإشكالية أن البطانة المحيطة بالرئيس صالح وأسرته لم يعترفوا بحقيقة تلك التحولات ، مع أنهم متأكدين من حقيقتها في قرارة أنفسهم ،لذلك يُحكى أنه عندما زار أحد المقربين قريته في محافظة تعز خلال إجازة العيد وقابله سكان القرية بقسوة الألفاظ والمواقف عندها قال لهم (قاهو ساقط ساقط خلونا نستفيد منه) ، ذلك الموقف أكيد يتكرر لدى المقربين من عائلة صالح ، وربما لو سائل أحدنا الرئيس أو المقربين الممسكين بزمام السلطة لسمعتهم يشكون بمرارة من الإنتهازيين والإستغلاليين الذين لايدلون بتصريح أو يطلقون رصاصة أو يحشدون جمعاً إلاَّ بمقابل يفوق كثيراً الخدمة التي يقدموها ، وفعلاً قد ترى عاقل حارة أو متنفذ صغير تحول إلى مليونير في شهور معدودة ، فما بالك بكبار المسئولين هل تحولوا إلى مليارديرات ...الله أعلم ، إن ذلك الإستنزاف المالي لن يمكن الرئيس صالح من الصمود طويلاً ، بل أن الإنتهازيين خاصة الكبار منهم ستزيد مطالبهم بحسب زيادة المخاطر التي يواجهونها نتيجة دعمهم للسلطة( وربما يفتعل بعضهم مواقف عدائية وهجمات وأشياء أخرى) حتى يزيد استنزافهم للأسرة الحاكمة، ومن يزور ميدان التحرير ويطلع على التوجيهات التي يصدرها بعض المشرفين على مخيم التحرير (تلك التوجيهات توجد منها نسخ لدى محلات الطباعة) وتشمل تلك التوجيهات المساعدات المالية المباشرة والتجنيد والتوظيف في الجهاز الإداري للدولة وأشياء أخرى عديدة ، وفي حال رفض أولئك المسئولين تلبية الطلبات يتم تهديدهم بالإلتحاق بساحة التغيير ، إذن ماهو مؤكد أن قدرة أسرة صالح على الحفاظ على ولاء مثل هؤلاء الإنتهازيين لن يستمر طويلاً ، لأن مطالبهم لاتنتهي ، وتهديداتهم لأتنتهي أيضاً .
الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها أن سلطة الرئيس صالح وأركان حكمه أصبحت محدودة جداً ، ومؤسسات الدولة أصبحت مشلولة ، فلا توجد دائرة حكومية واحدة تعمل بشكل طبيعي ، ولو حاول أنصار صالح إيهام الراي العام عبر أبواق الإعلام بأن الحياة طبيعية فذلك كذب ، ويكفي أن نعرف أن الرئيس صالح منذ عام كان يلقي بعض خطاباته في القاعة الكبرى بالجامعة الجديدة ، وبعد ثورة الشباب لم يتمكن من دخول الجامعة من بوابتها الشرقية ، وقام بإلقاء خطابه في كلية الطب ، ثم بعد أشهر اصبح من الصعب على الرئيس الدخول إلى أي من مباني جامعة صنعاء ، بل أن طلاب الجامعة تمكنوا من توقيف الدراسة وإغلاق الجامعة ، وإزالة صور الرئيس من مختلف مبانيها .
وبالنسبة لأدوات السلطة المركزية في المحافظات فقد أصبحت محدودة ، بل أصبح لدى بعض المحافظات مجالس أهلية ، تنافس السلطة المركزية في إدارة السلطة المحلية ، ومحافظات أخرى مثل صعدة والجوف عين لهما محافظون جدد لاصلة لهم بالسلطة المركزية ، ومحافظات تعاني من إضطرابات حادة مثل أبين ،إضافة إلى مشكلات الخدمات المتكررة وخاصة الكهرباء والمشتقات النفطية .
على الرغم من التداعيات الخطيرة على المستوى السياسي والإداري للدولة ومقوماتها ، إلاَّ أن الرئيس صالح وأركان السلطة يراهنون على الإستمرار في الحكم مهما كانت التداعيات ، ورهانهم أن بإمكانهم البقاء في الحكم إعتماداً على أنصار الحزب الحاكم وبإسناد القوات العسكرية التي يملكونها .
هناك من يوهم الرئيس صالح وأسرته أن شباب الثورة ماهم إلاَّ أعداد بسيطة من شباب الإخوان المسلمين ، تساندهم الفرقة الأولى مدرع ، والفرقة أقل عتاداً وافراداً إذا ما قيست بالقوات العسكرية الموالية للرئيس صالح والمحيطة بأمانة العاصمة ، وبالتالي فالخصوم قوتهم محدودة ومن السهل حسم الموقف في فترة قياسية ، إن تلك النظرة القاصرة ستكون القاصمة ، لأن الفرقة الأولى مدرع ماهي إلاَّ نواة لجيش يتشكل إسمه الجيش الوطني الحر والذي يشمل حتى أفراد من الحرس الجمهوري والأمن المركزي وعدد من التشكيلات الموالية لأسرة صالح ، ومن ثم القضاء على الفرقة الأولى مدرع لن ينهي الجيش الوطني الحر ، بل والموجهات البسيطة التي حدثت مع الجيش الوطني الحر إنتهت بتراجع قوات صالح إلى ما بعد جولة النصر(كنتاكي) وعلى الرغم من محاولة استعادة تلك الجولة تحت وابل من القصف بمختلف الأسلحة لم تفلح قوات صالح ، ماهو السر؟؟؟ إن السر يكمن في العقيدة القتالية فقوات الجيش الوطني الحر تقاتل بعقيدة واضحة هي تحقيق حلم الشاب السلمي في تغيير النظام وهو خيار وطني ، بينما قوات صالح تقاتل ولا تستند إلى عقيدة واضحة لأن أهداف المعركة تبدوا دفاعاً عن سلطة شخص وعائلة وإن تم تغليفها بالشرعية الدستورية ، فإن تحاورت مع أي من شباب الحرس الجمهوري أو الأمن المركزي تجده غير مقتنع بتلك التبريرات ، وبالنسبة لحكاية الإخوان المسلمين ، هي حكاية نسجوها من مخيلتهم وصدقوها ، لماذا؟؟؟ لأن الموجودون في الساحات أولاً هم من مختلف شرائح المجتمع اليمني ، ثم أن الإخوان تيار مدني محدود ضمن حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يمثل تجمع لمصفوفة من التيارات الوطنية ذات التوجه الإسلامي وأهمها التيار القبلي ، ومن ثم المواجهات التي تجري في بعض المناطق وخاصة أرحب ونهم وتعز ويُتهم الإخوان بها ، هي محاولة مكشوفة لتفكيك التجمع اليمني للإصلاح أولاً ثم تفكيك اللقاء المشترك ثانياً ، ثم تفكيك قوى الثورة الشبابية الشعبية السلمية .
نقول للرئيس علي عبدالله صالح لاتصدق البطانة الفاسدة ، أو تطيع هواك فالنفس أَمارةٌ بالسؤ ، فالشباب الثائر مُصرٌ على تحقيق مطالبه في التغيير والمثل يقول(حبل المدى قطع الحجر)(وتيار الماء السائل يفتت الصخور الصلبة إن مر عليها) ، فإن استهنت بالشباب العزل بصدورهم العارية أمام ترسانتك العسكرية ، فأعلم أن أولئك الشباب الذين ولدوا وترعرعوا في ظل حكمك يملكون من الإرادة ما يفوق الترسانة التي جمعتها خلال سنوات عمرهم ، أما كيف فعليك بمراجعة تسجيلات المواجهات الشبابية مع قواتك المسلحة وأنصار الحزب الحاكم بداية بمواجهات جولة (سيتي مارت) وجمعة الكرامة وبقية المواجهات التي انتهت بمواجهات باب القاع وجولة النصر(كنتاكي) وما تلاها ، سترى الشباب يتدافعون في مواجة الأسلحة الفتاكة ، فيتساقط الواحد تلو الآخر ، هؤلاء الشباب إذا بحثت عن إنتماءاتهم السياسية ستجد فيهم من شباب الإصلاح والإشتراكي والناصري والمؤتمر والمستقلين وتيارات أخرى ، وإن عدت إلى مناطق ميلادهم ستجدهم يتوزعون على العديد من المحافظات ستجد من أمانة العاصمة وصنعاء وتعز وإب والبيضاء وذمار وريمة وصعدة وعمران والمحويت والضالع وأبين وعدن وشبوة ومأرب وحجة ، وبقية المحافظات في ساحاتها سقط العديد من الشباب شهداء وجرحى كما في الحديدة وحضرموت والجوف ، ومن ثم فتضحيات شباب الثورة تتوزع على خارطة الجمهورية اليمنية ، كذلك المظاهرات والمسيرات شملت مختلف محافظات الجمهورية بما فيها المحافظات النائية مثل المهرة والجزر كجزيرة سقطرى ، أما على مستوى الفئات العمرية فتظهر القنوات التلفزيونية ذلك المزيج من الاطفال والشباب وكبار السن ، وعلى المستوى النوعي ترى مسيرات الذكور تجاورها مسيرات الإناث ، إنها ثورة شعبية بكل المقاييس .
أخيراً إن الإقدام على أي مغامرة عسكرية لحسم الموقف وإخلاء ساحة التغيير بصنعاء ، بمنطق الواقع لن يحالفها الحظ ، وتجربة ساحة الحرية بتعز خير دليل ، وإن المعطيات الميدانية تؤكد على حتمية خيار التغيير بإذن الله ، فعقارب الساعة لاتعود إلى الخلف ، ومنطق التاريخ يقول أن إرادة الشعوب لا تقهر ، فمن تابع إحتفالات ساحة التغيير بذكرى ثورة سبتمبر يرى عجباً فعلى الرغم الخسائر اليومية في الأرواح وآخرها يوم 25سبتمبر ، وعلى الرغم من إدراك كل من في الساحة أن حياتهم مهددة بالخطر ، إلاَّ أن الفرحة لدى شباب الثورة تؤكد على قوة الإرادة الثورية التي لاتلين ، وبالعكس من يتابع الإحتفال الرسمي عبر الفضائية اليمنية ، يجد أن هناك حالة من التوتر وإنقطاع للصوت وفشل محاولات إشعال شعلة الثورة عدة مرات، كل ذلك لا يتاناسب مع فرحة سبتمبر المعهودة ، والحال كذلك للتنظيم فتنظيم الحفل وفقراته تبدي تميزاً ملحوظاً لشباب الثورة رغم الإمكانات المتواضعة ، إن تلك المشاهد تؤكد على أفول مرحلة من تأريخ اليمن وبروز مرحلة جديدة في تأريخه المعاصر .
في الأربعاء 28 سبتمبر-أيلول 2011 06:12:41 م